إصلاح الخطاب الديني في العهد المحمدي: الضمانات التشريعية للأمن المعني والروحي للمغاربة
ذ _ محمد أكعبور
مرشد ديني بإقليم الصويرة
باحث في الخطاب والإعلام الديني
إن مما يسم حكم المغرب في جميع فتراته حتى يومنا هذا العمل على:
· تحرير وحماية الثغور _ أو ما يسمى اليوم في أدبيات القانون الدولي بـــــــــ: استكمال الوحدة الترابية مما يضمن السيادة للدولة أيها السادة.
· الإصلاح الشامل والمتواصل المتجدد لمنظومة الحياة العامة ومنها المنظومة الدينية.
ذلك أن من وظائف الإمارة البناء والعمارة مؤازرة من لدن مشيخة العلماء المسئولة عن تحرير العقول مما يضمن صياغة الذهنية الجماعية للأمة.
ولذلكم فالإصلاح تجل من تجليات التجديد وهو سنة المرسلين حين يقع فتور أو سوء فهم الدين نتيجة تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ والإصلاح في الدين يخص فقط الآليات دون العمليات.
ولنا أن نستحضر مضامين الدرسين الحسنيين للموسم الرمضاني 1445ه:
أما الأول: فهو الدرس الحسني الافتتاحي للسيد أحمد التوفيق[1] :
فما الثاني: الدرس الحسني الرمضاني الموالي وقد عبر فيه المحاضر عن ذلك[2] فحدده في أمرين:
فتور الدين أو العمل به منشأ بعث الرسل.
لذلكم، فالرسل مبلغون موحى إليهم، فيما المجددون مهديون لذلك مختارون له.
هذا، ولما كانت طبيعة الدين الكمال والاكتمال صارت طبيعة التدين التكامل والاعتمال من أجل تجويد الإعمال اتقاء لكل إهمال وتجنبا لكل إخلال مخافة حصول أصناف من الإعلال وبذلك حصل الإهلال.
ذلك أن الدين حقائق مضمومة في نص الوحي وما دونه تراث فهْمه على حسب الاقتراب من عصر النبوة أو باجتهاد من ينتسب للنبوة تشريفا وتعظيما وإكراما وهو الذي يؤطره مفهوما الإصلاح الناتج عن التجديد الذي يبرز فقط في الآليات دون العمليات كما أشرنا.
هذا، ولما قدر الله لهذه البلاد أن تدخل في دين الله أفواجا، أسلمت أهله عليها على قول ابن جيدة فوقع الاختيار على من اعتبر الأمر امتحانا واختبارا فوَلي أمر الدين والدنيا يسوس كل واحد منهما بالآخر وبذلك حصل منذ زمان التحام ووئام بين الديني والوطني بهذه الأرض التي نصرت الدين وحفظته فنصرها وحفظها.
هكذا يَحكي لنا التاريخ حكاية تروى فلا تطوى من العمل المعتبر في سياسة الدين والدنيا على منهج النبوة ووفق تقاليد السياسة الشرعية.
فكان العمل بداية بالتأسيس والإصلاح وهو العمل المسنون والمنهج المكنون لضمان الاستمرارية في العمران الديني والبشري تحقيقا لسنة الاستخلاف في العمارة والتي ترعى أدبياتها الإمارة .
تقرر ترسيم مذهب العبادة وتنظيم العادة موازاة مع تأسيس جامعة لتدريس أصول هذا المذهب وتعليم أحكامه للفصل والتقاضي حتى تقوم الساعة فكان الحظ من نصيب المذهب المديني؛ مذهب سيدنا إمام مالك المدني في مدارسات وتقديم دراسات في حلقات العلم بالقرويين المَعلمة المرجعية حتى هذا الزمان لتخريج العلماء ورثةِ الأنبياء وهم للدين حماة وللناس هداة لضمان التخاطب الديني للمغاربة وهم خلْف السلطان الشريف مصطفُّون، وحول العرش حماية للدين والوطن من كل شائبة ملتفون.
سُنة متوارثة قرنا عن قرن حتى يوم الناس هذا، وتأسيسا على ذلك واستئناسا بمحطات نموذجية لاعتبار القواسم مما مس خير هذا العمل الإصلاحي بعض العواصم على سبيل إحاطات ، ثم بعدها نفرد الكلام ببعض ما تيسر على السياق الإصلاحي الحالي مستعيذين بالله من كل أمر شق وتعسر في ظل المتغيرات والرهانات التي تمسس الدين كما تمسس أمر الدين في النظام الديني العام ببلادنا حماية لخطاب الثوابت الوطنية والدينية باعتباره مرجعية الخطاب والتخاطب الديني ببلاد إمارة المؤمنين.
اهتم السلاطين والملوك؛ أمراءُ المؤمنين بالمغرب على الدوام بمسألتين كما مهدنا بذلك:
الأولى؛ تحرير الثغور مما يحققه من توحيد البلاد ونصرة العباد أي ما تقوم به الأبدان فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف أو ما يصطلح عليه في العلوم السياسية والقانون الدولي باستكمال الوحدة الترابية.
أما الثانية؛ تحرير العقول وبناء الإنسان لإقامة الأديان كما صدر بذلك البيان: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم أو ما يمكن تسمية بالعمران على المنطوق الخلدوني ومن منظور علم الاجتماع نجده بمسمى: التنمية البشرية والسؤال ما علاقة التنمية البشرية بالدين؟ فيكون الجواب: الدين هو الذي يمنح معنى للحياة في مجتمع المؤمنين والدين عمران.
فكان الإصلاح سنتهم متواترة عنهم حتى إذا ما وليوا أمر الدين والدنيا باشروه على عجل ووفق خطط وبرامج، ومُنطلق تلكم الإصلاحات من مقتضى البيعة الشرعية التي قيض الله بها أعناق أمراء المؤمنين بالمغرب على مر التتالي الزمني مسترشدة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”[3]وهو نص الحديث الذي كان منطلق الدرس الحسني الافتتاحي الذي ألقاه السيد المعالي فبلغ فيه الأقاصي والأعالي أمام الحضرة المولوية سليل الدولة العلوية ، حيث يورد المٌحاضر في مجلس المَحاضر “لقد قامت كل الدول التي تعاقبت على المغرب على برامج إصلاح وتجديد، أما الدولة العلوية فقد قامت على إصلاحات ميدانية ………..ومن علامات تجديد هذه الدولة للدين ميدانيا تلك النصائح السلطانية التي وقع استمدادها من روح الحديث النبوي الذي بنَينا عليه الدرس،[4] وقد وصلتنا منها ثماني رسائل، الأولى للسلطان سيدي محمد بن عبد الله ……. أما الرسالة الثامنة، وهي رسالة جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، فقد بعثها على رأس القرن الخامس عشر _وهي[5] الرسالة المعروف في أوساط المؤرخين الباحثين برسالة القرن كما أُطلق هذا الوسم على رسالة سيدي محمد بن عبد الله السلطان العالم والمجدد المصلح.
و” تدل التجارب والوقائع التاريخية على أن الجهات المعنية بإصلاح التدين ثلاثة أطراف، هي الإمامة والأمة والعلماء، أما الإمامة أي الإمارة فقد رأينا أنها قامت وتقوم من باب الاستمرار والتجديد بدورها في توفير ظروف قيام الدين ومباشرة التدين؛”[6]
وحديث التجديد هذا ورد برواية ” إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”[7].
بعد هذه الديباجة أيها السادة، إليكم محاور هذه الوُريقة:
المحور الأول: جهود السلطان أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله في الإصلاحات الدينية والتربوية
المحور الثاني: جهود السلطان أمير المؤمنين محمد الخامس في خطبة الجمعة والتأسيس للإعلام الديني
المحور الثالث: جهود الملك أمير المؤمنين الحسن الثاني في التأسيس للخطاب الديني العالي والإعلام الديني المرئي
المحور الرابع: جهود الملك أمير المؤمنين محمد السادس في مأسسة الخطاب الديني وطنيا ودوليا وتسديد التبليغ عبر خطط وبرامج إعلامية.
ومن اللطائف أن يسمى كل سلطان مغربي بوسم يطبع شخصيته ولذلك يسمى سيدي محمد بن عبد الله ب: السلطان المصلح كما تسمى الأمراء قبله وبعده بألقاب تلخص فكرهم الإصلاحي ومنهاجهم العمراني.
المحور الأول: جهود السلطان أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله في الإصلاحية الدينية والتربوية
لما ولي السلطان حكم البلاد وجد في الأرض فسادا هم الوظائف ومس الخطط فأثر في حياة الناس فأسرع إلى استصدار مراسيم وظهائر باعتبارها أسمى نصوص تشريعية تضمن السير الطبيعي لحياة أهل المغرب وتحفظها من كل شائبة مع ما تضمنه من صون الشريعة الإسلامية من أن تظل سائبة في غياب العدل في الحكم بين المتقاضين لفساد المعاملات البيْنية ومجلى ذلكم في:
1_ خطة الإفتاء:
“كان المفتي يمثل دور الاستئناف وتصحيح الأحكام، فالخصوم كانوا أحيانا يُدلون بفتاوى العلماء أثناء المسطرة الشرعية، والفتوى تكون محتوية على أقوال شرعية للفقهاء المتضلعين المفتين المستندين إلى القرآن الكريم، والسنة الشريفة، وأقوال الأئمة أصحاب المذاهب والعلماء فكان القاضي يعتمد كثيرا الفتاوى الصادرة عن العلماء، ويراجع على ضوئها أحكامه.
قال السلطان في مرسومه : « وإذا تمادى القاضي في حكمه الواهي، ولم يعمل بالقول المشهور الذي كتب به المفتي، فواجب على السلطان نزعه، وينقض ذلك الحكم الأول لأن الحق أحق بأن يتبع”.[8]
2_ خطة الشهادة _العدالة:” فوضع تنظيما جديدا للعدلية، مع تبسيط القضاء وتعميم العدل، وأسند للفقهاء مهمة مراقبة أحكام القضاة حماية للرعية……..كما منح الناس كامل الصلاحية في اختيار أئمة مساجدهم، برفض الأئمة الذين لا يرضون عنهم وتنصيب من يقع عليهم اختيار الجماعة ويحضون بقبولها…….هذا السلطان هو أول من وضع أول حجرة أساس في نظام العدلية وإصلاح الدروس في جامع القرويين”[9]
3_ رسالة القرن: والتي ضمنها تشخيصا للواقع الديني المغربي كما ضمنها جردا لقائمة منكرات عمت بها البلوى في العبادة كما العادة؛ يومها مقدما خارطة إصلاحية زجرية ردعية وتربوية وقائية إذ وقع فساد عريض إثر ضعف جلي في وازعي السلطان والقرآن مما ظهرت معه ظواهر قبيحة مست ميادين الحياة العامة ومنها الحياة الدينية:
” وقد بلغنا ما حدث في العامة من عموم الجهل بالتوحيد وأصول الشريعة وفروعها حتى ارتكبوا أمورا تقارب الكفر أو هي الكفر بعينه، وذلك من خلو القبائل من طلبة العلم العاملين وقلة المرشد المعين حتى لا تجد في القرية الكبيرة عالما يرجعون إليه في مسائل دينهم ونوازل أحكامهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وذلك من تفريط العمال وقلة اعتنائهم بالدين والعهدة عليهم في ذلك؛ لأنهم ينبغي لهم الغبطة في العلم والعلماء وتقريب أهل الخير والدين، والاقتداء بالأولياء والصالحين، وإعانة النجباء من قبيلتهم على طلب العلم من محله وأخذه عن أهله….”[10]
في باب العبادات :
“ومنه التهاون بالصلوات الخمس والجهل بوسائلها كالاستبراء والوضوء والطهارة والأذان…..
ومنه أمر الزكاة الواجبة في الأموال والأنعام والحبوب لمن حال عليه الحول وكمل عنده النصاب.
ومنه صيام رمضان الذي أوجبه الله على كل عاقل بالغ صحيح حاضر.
ومنه الحج للمستطيع.”[11]
في باب العادات :
“فمنها فساد البيع والشراء والمعاملات….. ومنها فساد الأنكحة والتساهل فيها …. ومنها التساهل في أمر الزنا …… ومنها التساهل في أمر السرقة….. ومنها التساهل في أمر الدماء…. ……إلى غير ذلك من المنكرات التي حدثت في الوقت نسأل الله السلامة، فإن الشر في الزيادة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فيجب على من ولاه الله أمرا أن ينصح لنفسه ولرعيته جهد الاستطاعة، ويحملها على اتباع السنة والجماعة، ويزجر من قصر في دين الله وخالف أمره وارتكب ما نهى عنه بقدر معصيته، ويقوم بأمر الله فيهم وطاعته، ويبرأ بنفسه فيحملها على منهاج الحق والشريعة، فإن الرعية على دين رئيسها، فحينئذ ينفع تعليمه ويقبل ما يقول، ويلزم كل دوار وجماعة مشارطة طالب علم يرجعون إليه في أمر دينهم وتعليم صبيانهم وجهالهم، ويقوم بالأذان والصلوات الخمس في أوقاتها”[12]
هكذا صيغت في العهد السلطاني خطة محكمة شاملة للحياة الدينية والدنيوية مع ما وفرته من ضمانات تكرس البعد المقصدي والتربوي في عملية الإصلاحات السلطانية التي اقتضاها سياق وسيرورة حياة .
” رسالة القرن للسلطان سيدي محمد بن عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
وبعد:
فقد قال الله سبحانه:﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ﴾[سورة النحل: 90].
وقال تعالى:﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ﴾[سورة الحج: 41]. وقال عليه السلام: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته».
وقد بلغنا ما حدث في العامة من عموم الجهل بالتوحيد وأصول الشريعة وفروعها حتى ارتكبوا أمورا تقارب الكفر أو هي الكفر بعينه، وذلك من خلو القبائل من طلبة العلم العاملين وقلة المرشد المعين حتى لا تجد في القرية الكبيرة عالما يرجعون إليه في مسائل دينهم ونوازل أحكامهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وذلك من تفريط العمال وقلة اعتنائهم بالدين والعهدة عليهم في ذلك؛ لأنهم ينبغي لهم الغبطة في العلم والعلماء وتقريب أهل الخير والدين، والاقتداء بالأولياء والصالحين، وإعانة النجباء من قبيلتهم على طلب العلم من محله وأخذه عن أهله؛ ففي الحديث: «طلب العلم فريضة». وقال عليه السلام: «اطلبوا العلم ولو بالصين». وفي الحديث: «العالم في قومه كالنبي في أمته».
فإن العالم إذا كانت بطانته صالحة كانت أعماله جارية على الصلاح والسداد، وإذا كانت بطانته على غير هداية كانت أحكامه مخالفة للشريعة فضل وأضل، وقد قال عليه السلام: (ما من وال إلا له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، ومن وقي بطانة السوء فقد وقي). وقال عليه السلام: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الرجال ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». وقال عليه السلام: «بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء». وقال عليه السلام: «يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر».
وهذا آخر الزمن الذي أخبر الصادق المصدوق عليه السلام بفساده وعموم الفتن والأهواء والبدع الدالة على اقتراب الساعة، نسأل الله حسن الخاتمة. فينبغي للمؤمن المشفق على نفسه عموما وخصوصا العمال البحث عن دينهم ومعرفة أحكام ما دفعوا إليه وقلدوه من أمر رعاياهم ليسيروا على منهاج الشرع ويرتكبوا ما ينجيهم مع الله، ففي الحديث: «لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه». وفي الحديث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة أحيانا مخافة السآمة علينا».
فأول ما ضيعت العامة أصول الدين وفروعه وتهاونت بالإسلام وقواعده؛ فمنه التوحيد الذي هو أساس الدين والقطب الذي عليه المدار، وسلامة العقيدة هي أصل الخير والنجاة من النار. فينبغي العناية به أتم، والمؤمن بأصل دينه أهم.
ومنه التهاون بالصلوات الخمس والجهل بوسائلها كالاستبراء والوضوء والطهارة والأذان. والصلاة هي عمود الدين وذروة سنامه، قال الله سبحانه: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾ [سورة البينة: 5]. وقد ذكرها الله سبحانه في آيات كثيرة من كتابه وحض على إقامتها والمحافظة عليها، قال سبحانه:﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ﴾[سورة البقرة: 238]. وقال سبحانه:﴿ والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ﴾. [سورة المؤمنون: 9 – 11]. وقال عليه الصلاة والسلام: «الصلاة عماد الدين». وقال: «بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة». وقال: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا». وقال عليه السلام: «أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله».
وكتب سيدنا عمر رضى الله عنه: «إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع». وقد جعلها الله سبحانه للمحافظين عليها واعظا وناهيا فقال:﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾[سورة العنكبوت: 45]. وقال سيدي خليل: «ومن ترك فرضا أخر لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري، وقتل بالسيف حدا، ولو قال: أنا أفعل، وصلى عليه غير فاضل».
ومنه أمر الزكاة الواجبة في الأموال والأنعام والحبوب لمن حال عليه الحول وكمل عنده النصاب، وقد حدث فيها من الخيانة والتدليس وتقاعد الناس عليها والامتناع من إخراجها إلا بالقهر ما صيرها جباية، وثقلت على العامة، حتى صارت مغرما مع أنها زيادة في الأموال وبركة فيها وحفظ لها.
الزكاة أخت الصلاة، فكما أن الصلاة طهرة للأبدان، الزكاة طهرة للأموال، قال تعالى:﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ﴾[سورة التوبة: 103]. وفى الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: «ما مانع الزكاة بمسلم». وعنه صلى الله عليه وسلم: «حصنوا أموالكم بالزكاة». وعنه أيضا: «ما ضاع مال في بر ولا في بحر إلا بترك الزكاة فيه».
وقال تعالى:﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾[سورة التوبة: 34، 35]. وفى الأثر: «كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز». وعنه عليه السلام: «ما من صاحب مال لا يؤدى حق الله فيه إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزمتيه؛ أي: شدقيه، يقول: أنا مالك أنا كنزك». وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس».
ومنه صيام رمضان الذي أوجبه الله على كل عاقل بالغ صحيح حاضر، قال الله سبحانه: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس﴾ الآية. [سورة البقرة: 185]. وقد ضيعت العامة حقوقه وتهاونوا بصيامه حتى إنه بلغنا مجاهرة بعضهم بأكله من غير نكير، ومن صامه صامه من غير قيام بحقه ولا معرفة بما يصحح صومه أو يفسده، وأكثرهم يصومون ولا يصلون، وفي الحديث: «الصيام جنة ما لم تخرقه». وعنه عليه السلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وعنه عليه السلام: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
ومنه الحج للمستطيع، قال تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ [سورة آل عمران: 97]. والاستطاعة هي الزاد والراحلة والأمن على النفس والمال، وقال عليه السلام: «من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقال عليه السلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
وقد سمعت العامة فضله وجحدوا حكمه وارتكبوا فيه من البدع والرياء والسمعة ما أفسدوه عليهم، فإن الحاج ينبغي له اختيار الحلال المحض لذلك، والمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، ومعرفة أحكامه وسننه، وترك المراء والجدال والرفث والفسوق وحفظ الجوارح من المعاصي، وخصوصا الفرج واللسان، قال الله سبحانه: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾ [سورة البقرة: 197]. وقد صار اليوم عند العامة لهوا ولعبا، وجل العامة لا يقصد به إلا التسمية بالحاج فقط ولا يقصد به فرضا ولا غيره، فتجد الرجل يتوجه للحج ومن حين خروجه وهو متلبس بالمعاصي من أكل الحرام وترك الصلوات والتهاون بأمور الدين، ولا يعرف ما يأتي وما يذر، ويرجع وقد توجه لفرض فعطل فروضا، ولم يدر مسنونا ولا مفروضا، أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ومن أركان الدين الجهاد في سبيل الله وهو فرض كفاية ما لم يفجإ العدو، فإن فجأ العدو كان فرض عين، قال سيدي خليل: «وتعين بفجإ العدو وإن على امرأة وصبي…». وقال الله تعالى: ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم﴾ الآية. [سورة البقرة: 216]. وقال: ﴿وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم﴾. [سورة البقرة: 244]. وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة﴾ الآية. [سورة التوبة: 123]. وقال سبحانه: ﴿وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾. [سورة التوبة: 41]. وقال: ﴿الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون﴾ [سورة الحجرات: 15]. وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم﴾ الآية. [سورة الصف: 10]. وقال: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء﴾ الآية. [سورة آل عمران: 169]. وقال عليه السلام: «الجهاد رهبانية أمتي». وقال: «لكل نبيء حرفة وحرفتي الجهاد في سبيل الله». وقال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري». وقال: «من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية». وقال: «ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا».
فينبغي للمؤمن الموقن أن يسمع ويطيع لما أمر الله به من الجهاد، ويستعد بما قدر عليه من سلاح وفرس جواد، وتعلم رماية وفروسية ليأجره الله على نيته، ويثيبه على حكم قصده وطويته، قال تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم…﴾ [سورة الأنفال: 60]. وليتعلم ما يتعلق به من الأحكام من حسن النية والإخلاص وصدق العزيمة، لتكون كلمة الله هي العليا، ويشعر نفسه تصديق ما وعد الله به من نصر الإسلام وأهله وخذلان الكفر وشيعته، ويعرف حرمة الفرار من الزحف وما أعد الله لمن مات شهيدا مقبلا، وما أعد الله لمن مات مدبرا ليكون على بصيرة فيما يأتي وما يذر.
وهذا الجهل الواقع في قواعد الدين إنما هو من قلة العلم وعدم مخالطة العلماء وسؤالهم عن مسائل الشريعة المطهرة، فتجد أحدهم بصيرا بأمور معاشه وبيعه وشرائه جاهلا بأمور دينه واعتقاده، غافلا عن معاده لعدم اعتنائه بآخرته، وقلة نظره في أمور عاقبته، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد عم ذلك حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وارتكبت العامة أمورا قريبة من الكفر أو هي الكفر بعينها.
فمنها فساد البيع والشراء والمعاملات؛ وهو سلف الدراهم بالزيادة أو كراؤها بكذا في الشهر لكل مثقال وغير ذلك من أنواع الربا، وقد شدد الله في أمره وآذن المصر عليه بالحرب فقال سبحانه: ﴿الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس﴾ الآيات. [سورة البقرة: 275]. وقال عليه السلام: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به». وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده».
ومنها فساد الأنكحة والتساهل فيها من خطبة أحدهم على خطبة أخيه والدخول على المطلقة قبل تمام العدة وغير ذلك من المنكرات، وأشنعها وأبشعها ما يرتكبه الأشياخ الفجرة من بيع النساء على ما بلغنا؛ وصورة ذلك أن يقبض الرجل وتوظف عليه الذعيرة فلا يفي بها ماله وتكون عنده الزوجة المرغوب فيها فيتحمل الراغب فيها بما بقي من الذعيرة ويسلمها له، ويجعلها العدول الفجرة في صورة خلع، ويدخل بها الراغب قبل وفاء العدة، وهذا وشبهه من الإلحاد في الدين، والخروج عن شريعة سيد المرسلين.
ومنها التساهل في أمر الزنا والاكتفاء فيمن ثبت عليه بالقبض والذعيرة، وذلك من المنكر الذي لا يرضاه الله ورسوله والمؤمنون؛ لأنه خرق الشريعة وإبطال لأحكام القرآن، وقد قال تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا﴾ [سورة الإسراء: 32]. وقال سبحانه: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ [سورة النور: 2]. هذا في البكر وأما الثيب فالرجم، فقد قال عليه السلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن». وقال: «الزنا بريد الفقر، ولا ظهر في قوم الزنا إلا فشا فيهم الموت».
ومنها التساهل في أمر السرقة والاكتفاء برجوعها وزجر السارق، وهذا مخالف للشرع، مبطل لحكمه الذي هو القطع، قال الله سبحانه: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾ الآية. [سورة المائدة: 38]. وقال عليه السلام: «والله لو سرقت -وذكر عضوا شريفا من ذات شريفة حاشاها من ذلك- لقطعت».
ومنها تسلط الأشياخ على نسوة رعاياهم بالاحتيال على من كان تحته زوجة حسناء بقبضه حتى يتوصل للفاسد في زوجته.
ومنها التساهل في أمر الدماء التي شدد الله فيها وأمر بالقصاص فقال سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ [سورة البقرة: 178]. وقال: ﴿ولكم في القصاص حياة﴾ [سورة البقرة: 179]. وقال سبحانه: ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا﴾ [سورة الإسراء: 33]. فتجد القاتل يسبق إلى الشيخ أو العامل للإعلام والرشوة ليبطل حق المقتول ودعوى أوليائه إن رفعت إليه، ويسعى في إبعاد التهمة عنه، وربما يتجرأ على الله بقبض أولياء الدم ليدحض دعواهم، ويحسم شكواهم.
إلى غير ذلك من المنكرات التي حدثت في الوقت نسأل الله السلامة، فإن الشر في الزيادة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فيجب على من ولاه الله أمرا أن ينصح لنفسه ولرعيته جهد الاستطاعة، ويحملها على اتباع السنة والجماعة، ويزجر من قصر في دين الله وخالف أمره وارتكب ما نهى عنه بقدر معصيته، ويقوم بأمر الله فيهم وطاعته، ويبرأ بنفسه فيحملها على منهاج الحق والشريعة، فإن الرعية على دين رئيسها، فحينئذ ينفع تعليمه ويقبل ما يقول، ويلزم كل دوار وجماعة مشارطة طالب علم يرجعون إليه في أمر دينهم وتعليم صبيانهم وجهالهم، ويقوم بالأذان والصلوات الخمس في أوقاتها. والجماعة التي لم تفعل ذلك يزجرهم ويعاقبهم، ويختار الأشياخ أهل الدين الذين يقومون بذلك، ويستعين عليه بالقضاة أهل العلم والعمل الذين يتقون الله ويتحرون في أحكامهم، ومن ثبت عليه حد من حدود الله شرعا يطالعنا به لنأمر بإنفاذ حكم الله فيه. ويشدد على أهل الجرائم والفساد، ويرفق بالضعفاء والمساكين، فما سمعنا عاملا قبض أحدا على ترك الصلاة أو ترك الوضوء أو عاقبه على قلة دينه أو أدبه على قول أو فعل خارج عن الشرع العزيز، وإنما يبلغنا قبض العمال على الذعيرة أو مخالفة الشيخ أو الغوغة عليه أو غير ذلك من الأغراض والشهوات الدنيوية التي لا تعلق لها بالدين، مع أن القيام بأمور الدين أولى، والاهتمام بالاستقامة فيه أهم، ولو استقام دين العامة لاستقام أمر دنياهم. فينبغي للعاقل إيثار أهل الدين على الدنيا، ففي محض حق الله تجب المبادرة، وفي الشمائل: «كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه إلا إذا انتهكت محارم الله فلا يقوم لغضبه شيء».
فمن وفقه الله للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رشد واهتدى، ومن حاد عن سبيله فقد غوى واعتدى، فإنه عليه السلام تركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا شقي. وليجعل أموره كلها جارية على الكتاب والسنة ويسأل العلماء عما لم يعلم، ويرفع القضايا الشرعية للقضاة، ويأمرهم باختيار الشهود أهل العدالة والدين ليتم له من ذلك ما أراد، ومن ظهرت عليه جرحة في شهادته ينكل به ويمنعه من الشهادة لينزجر به غيره وتجري أمور الشرع على مقتضاها، فإن بصلاح الشهود تستقيم أمور الشرع؛ لأن بهم عصمة الدماء والأموال والأنساب. وصلاح الشهود بصلاح القاضي، وصلاح القاضي بالعلم والتقوى والورع ومعونة العامل على تنفيذ أحكامه. فمن قام بهذا من العمال فقد نال رضى الله ورسوله ورضانا وفاز بخير الدارين، فإن بالعدل ثبات الولاية وملاك أمرها، ولا يتم ذلك إلا بمشاورة الصلحاء والاهتداء بهديهم، فإن مصاحبة الأخيار ترفع الأقدار وتبلغ منازل الأبرار، وقد قيل: «والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح». ولا يقال: «فسد الزمان وقل أهل الدين، وفقد الناصر والمعين». فإن من قام بالله وجد في إقامة شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمة صادقة رزقه الله المعونة على ذلك، والتوفيق لسلوك تلك المسالك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ﴿ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾ [سورة الحج: 40].
ومن حاد عن هذا السبيل من العمال وقصر في نصح رعيته ولم يحملها على أفضل الأخلاق والأعمال، فقد تعرض لسخط الله ومقته وحلول العقوبة المعجلة به ولا يلوم إلا نفسه ولا يضر إلا رأسه.
ولتكن نسخة من هذا الكتاب عند كل شيخ وكل طالب، ليبلغ الشاهد الغائب، ولنخرج من عهدة التقليد، ومن خالف الشرع أو حكم بغير ما أنزل الله أو رضى بذلك فحسابه على الله، قال الله سبحانه: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله﴾ [سورة الحشر: 7]. وقال: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ [سورة النور: 63]. وقال تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾ [سورة المائدة: 45]. ﴿فأولئك هم الفاسقون﴾ [سورة المائدة: 47]. ﴿فأولئك هم الكافرون﴾ [سورة المائدة: 44].
فها نحن قد ذكرناكم وبصرناكم، وعرفناكم مرادنا فيكم وقلدناكم، وعلى سبيل النجاة دللناكم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، فاجعلوا هذا الكتاب نصب أعينكم وتدبروا ما فيه ببصيرة نافذة وعقول حاضرة لتعملوا بمقتضاه. والله يوفقكم لما يحبه ويرضاه والسلام. “[13]
المحور الثاني: جهود السلطان أمير المؤمنين محمد الخامس في خطبة الجمعة والتأسيس للإعلام الديني
إصلاح الخطابة خطبة الجمعة :
محمد الخامس الملك الخطيب: فقد كان يخطب في الأمة المغربية والإفريقية ؛وهكذا خطب في كل من المسجد الأعظم بطنجة والمسجد الأعظم بتطوان ومسجد انتسيرابي بجزيرة مدغشقر في منفاه ومسجد حسان بالرباط ومساجد أخرى بمدن المملكة .
“وهكذا قسَم حياته في المنفى إلى ما يلي:
قسم لنفسه وتفكيره وتعبده ، وقسم لأبنائه وأسرته وأهله، وقسم ثالث لإخوانه المسلمين في تلك الجزيرة النائية الذين وجدوا فيه الإمام المتبتل ،والواعظ النصوح ،والمُدرس المعلم ،والخطيب المؤثر حيث كان يؤم بهم في صلاتهم ، ويعظهم في مسجدهم ويخطب فيهم لأداء صلاة جمعتهم ،فقد وجدوا فيه نسك الصالحين وإخلاص المجاهدين ، وسلالة الرسول الأمين.”[14]
إصلاح التعليم والتعليم الديني المتوسط والعالي ؛ وذلك بإنشاء: المدارس الحرة والمعاهد الدينية بكل من وجدة وتارودانت كما قام بإصلاح النظام التعليمي بالقرويين ويمكن الرجوع إلى “خطاب جلالته ليوم 25 شتنبر1956″ والذي تحدث فيه عن أمله في تحقيق الكفاية الدينية والعلمية والقضائية واللغوية التي تتحقق ببرنامج التخريج والتفويـج من الجامعة المغربية والتي أثبتت اليوم فعاليتها في تخريج العلماء والفقهاء والأطر الدينية كما أنه أسس أول جامعة مغربية عصرية وهي جامعة محمد الخامس بالرباط21 دجنبر1957 ، التي تعتبر أمَّ الجامعات المغربية العصرية.
” كان محمد الخامس ينشر التعليم الشامل والكامل بين الفتيان والفتيات، وفتحه للمدارس الحرة وإصلاحه لنظام التدريس بالقرويين وتشجيعه للبعثات العلمية والحركة الإصلاحية التربوية بمختلف التشجيعات، كلها عوامل أوجدت قاعدة تعليمية صلبة كانت الأساس الذي قام عليه صرح النهضة في عهد الملك المكافح،” وأب الجهاد التعليمي”. “ومدرسة للقيم الوطنية”[15]
إصلاح الحقل الديني والتأسيس للإعلام الديني: “مجلة” (دعوة الحق) ولكم أن تعودوا لكلمته الجامعة للمجلة في أول أعدادها يقول جلالةُ السلطان: …ولذلك سرَّنا أن تتولى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إصدار مجلة جامعة تُعنى بصفة خاصة بالإصلاح الديني كما تعالج مختلِف الشؤون الاجتماعية والثقافية.
ولنا وطيدُ الأمل في أن يلتف حولها دعاة الفكر والثقافة والإصلاح في هذه البلاد وغيرها لتؤدي مهمتها خيَر أداء.
وعسى أن تسلك مجلةُ “دعوة الحق” سبلَ النجاح والتوفيق”[16]
المحور الثالث: جهود الملك أمير المؤمنين الحسن الثاني في التأسيس للخطاب الديني العالي والإعلام الديني المرئي
تأسيس المجلس العلمي الأعلى بموجب الظهير الشريف رقم 1.80.270 المؤرخ في 3 جمادى الأخرة 1401(8 ابريل 1981)
إصلاح الخطابة:
نستحضر هنا الكلمة التوجيهية السامية لأمير المؤمنين التي ألقاها في المشاركين في الملتقى العالمي الأول لخطباء الجمعة في المغرب بالقصر الملكي بالرباط يوم السبت 27 رجب 1407ه_موافق 28 مارس 1987 والملتقى عقد بفاس أيام 22_ 27 رجب 1407ه_موافق 23_27 مارس 1987.
استحداث وتحديث الدروس الحسنية الرمضانية والتي كانت في عهد السلطان محمد الخامس تسمى بالدروس الحديثية.
محاورته العلماء المحاضرين والفتح عليهم والتدارك عليهم بل ومناقشتهم .
محاضرته في هذه الدروس لمرتين، الأولى في دجنبر 1966، والثانية في غشت 1978، وكان عنوانهما تواليا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإضاعة الأمانة.
أمر جلالته بنقلها على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزة .
رسالة القرن :
وهي ” منهج عمل طرحه العاهل الكريم في الوقت المناسب إسهاما منه في إيجاد حلول لمشاكل العصر وتقديم بدائل للأمة…. وكان لها الوقع الحسن في عدد من العواصم الإسلامية واستقبلها القادة والعلماء والمفكرون وجمهور واسع من المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين بما هي جديرة به من عناية واهتمام وتقدير، واعتبرها الجميع وثيقة تاريخية وميثاق عمل وخطة مرحلة هامة من مراحل تاريخ أمتنا”.[17]
وقد اخترت مجتزأ منها مما نحن بصدد الحديث عنه _على أننا سنورد متن الرسالة في الفقرة الموالية _حيث يورد جلالته رحمة الله عليه أنه ” من واجب القادة المسؤولين والزعماء البارزين في العالم الإسلامي أن يفتحوا الطريق أمام القائمين بالبعث الإسلامي والدعوة الإسلامية، وأن يشملوهم بالرعاية الكافية، حتى يؤدوا رسالتهم أحسن أداء.
كما أن من واجب دعاة الإسلام أنفسهم أن يجتمعوا على كلمة سواء، ويدعموا فيما بينهم روابط التضامن والإخاء، وأن يعملوا على أن تكون دعوتهم خالصة لوجه الله يسودها طابع التعاون والصفاء.
فبالتخطيط الإسلامي المحكم، والعمل المتواصل المنظم للدعوة الإسلامية الموحدة، يتغلب المجتمع الإسلامي على كثير من الأزمات، ويتصدى بفعالية ونجاح لمواجهة كثير من التحديات ويمارس مسؤولية تطوره ونموه بنفسه وفي نطاق حضارته، دون أدنى تبعية، ولا ضغوط خارجية “”[18]
هذا وقد اشتغل باحثون مغاربة على القراءة النقدية لهذه الرسالة فقاموا بنشر أبحاثهم عنها على مجلة دعوة الحق الورقية.
ونورد متن هذه الرسالة كما أخذناه من موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
رسالة القرن: الحسن الثاني
الأربعاء 08 فبراير 2012
وجه جلالة الملك أمير المؤمنين الحسن الثاني، كما هو معلوم –رسالة سامية إلى الأمة الإسلامية مطلع القرن الخامس عشر الهجري أجمع الملاحظون في الداخل والخارج على أهميتها القصوى باعتبارها منهج عمل طرحه العاهل الكريم في الوقت المناسب إسهاما منه في إيجاد حلول لمشاكل العصر وتقديم بدائل للأمة تكون لها عونا على الخروج من طور التخلف والتيه والضياع. ولقد نشرت ترجمات متعددة للرسالة الملكية، وكان لها الوقع الحسن في عدد من العواصم الإسلامية واستقبلها القادة والعلماء والمفكرون وجمهور واسع من المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين بما هي جديرة به من عناية واهتمام وتقدير. واعتبرها الجميع وثيقة تاريخية وميثاق عمل وخطة مرحلة هامة من مراحل تاريخ أمتنا.
نص الرسالة:
“الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله.
من عبد الله المعتمد على الله المتوكل عليه في سره ونجواه أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين.
أعز الله أمره، ورفع قدره، وخلد في الصالحات ذكره إلى أبنائه المغاربة خصوصا، وإخوانهم المسلمين في جميع أقطار الأرض عموما.
وفقكم الله وهداكم، وجعل فيما يرضيه محياكم ومماتكم، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فقد شاءت الأقدار الإلهية، والعناية الربانية، أن نحيى وتطول أعمارنا، حتى نشهد فترة حاسمة في تاريخ أمتنا وحياة ملتنا قلما يشهدها الجميع، ألا وهي نهاية القرن الرابع عشر الهجري الذي كان مليئا بالمكايد والمغامرات، وبداية القرن الخامس عشر الهجري الذي يلوح في الأفق أنه سيكون مليئا بالتحديات والمفاجآت، ولا شك أنه ما من أحد من خاصة المسلمين وعامتهم الذين شهدوا هذا الحادث التاريخي السعيد، إلا وهو مدعو للتأمل في الماضي القريب والبعيد، تأملا دقيقا، ومطالب بالنظر في الوضع الحاضر نظرا فاحصا وعميقا، إذ بدون مراجعة للماضي ونظر في الحاضر لا يمكن التطلع إلى آفاق المستقبل، واستشراف ما يتوقع فيه من وقائع وأحداث تنعكس آثارها على مسيرة الإسلام وحياة المسلمين.
وقد أرشدنا كتاب الله إلى أن في تداول الليالي والأيام، فضلا عن توالي السنين والأعوام، عبرا ومثلا ينبغي استخلاصها والاستنارة بها للسير قدما إلى الأمام، فقال تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) سورة الفرقان، الآية: 62، فمن وجد خيرا حمد الله وشكر، ومن وجد غيره تدبرا واعتبر، وأصلح ما فرط منه فيما مضى وغبر.
وامتثالا لما نصت عليه الأحاديث النبوية الشريفة من أن الدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وأن النصح لكل مسلم شرط أساسي في صحة الانتماء إلى الإسلام “وأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم” وأن كل مسلم ذكرا كان أو أنثى، صغر شأنه أو كبر، يعتبر راعيا ومسؤولا عن رعيته، كل في دائرة اختصاصه ومسؤوليته، وتجديدا لتقليد شريف متعارف عليه منذ عهد أجدادنا المنعمين، ملوك المغرب الميامين، كلما انتهى قرن، وبزغ فجر قرن جديد، رأينا من الواجب علينا، بصفتنا قائدا من قادة المسلمين وأميرا من أمراء المؤمنين، أن نتوجه في هذه المناسبة التاريخية الفريدة بالنصح الخالص والإرشاد، إلى أبنائنا الأوفياء في هذه البلاد، وإلى إخواننا المؤمنين الأعزاء في بقية البلاد. فقد حض كتاب الله كافة المؤمنين على أن يتواصوا بالحق حتى يتجنبوا الوقوع في مزالق الباطل، وأن يتواصوا بالصبر حتى يواجهوا بعزم وحزم جميع التحديات والأزمات لا يبخلوا في سبيل نصرة ملتهم، والدفاع عن أمتهم، ببذل أقصى الجهود وأعظم التضحيات. قال تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) سورة العصر.
معاشر المسلمين
إن من مِنن الله على خلقه ورحمته بهم أن بعث فيهم سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه برسالة إلهية هي خاتمة الرسالات، تهديهم إلى محجة الصواب وتفتح لهم من وجوه الخير والبر كل باب، فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وترك من بعده كتابا محكم الآيات، من تمسك به لم يضل، وسنة وثيقة الأسانيد والروايات، من اقتفى أثرها لم يزل. واقتضت حكمة الله أن يضع على عاتق خلفاء المسلمين وأمرائهم أمانة خلافته في الأرض فجعل بذلك على رأس مهامهم مسؤولية الذود عن الشريعة والحفاظ على الدين وحماية المجتمع الإسلامي من كل زيغ أو ضلال مبين. وقد امتاز المغرب الإسلامي بتعاقب ملوك بررة جعلوا الحفاظ على الإسلام والدفاع عنه فيما وراء البحار، ونشره فيما جاوره من الأقطار مهمتهم الأولى، وتثبيت تعاليمه في النفوس غايتهم المثلى، ومن بينهم ملوك شرفاء من آل البيت الكرام، في طليعتهم أسلافنا الملوك العلويون المنعمون في دار السلام.
ومنذ ولانا الله أمر هذا الجانب الغربي من دار الإسلام ضاعفنا الجهود لتعزيز جانب الدين في كل حين، ولم ننقطع عن العمل المتواصل لبعث حيويته وتجديد معالمه وإبراز محاسنه للموافقين والمخالفين، اقتداء بصاحب الرسالة وخاتم النبيئين عليه الصلاة والسلام، وإيمانا منا بأن دين الحق لابد أن يبقى ظاهرا مستمرا على مر الأيام مصداقا لقوله تعالى: (ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا) سورة الفتح 28.
معاشر المسلمين
لقد أكرمنا الله بدين متين الأساس راسخ البنيان، صالح لكل زمان ومكان ما من شعيرة من شعائره، ولا شريعة من شرائعه، إلا وهي مؤسسة على تقوى من الله ورضوان، فهو دين يقرر “كرامة الإنسان”، ولا يرضى له بالتعرض للذل والهوان وهو دين العلم والحرية، الذي لا يعرف التحفظ ولا التقية، يدعو أتباعه دعوة ملحة إلى تعلم العلوم والفنون واللغات، ويسمح لهم بالتفتح على جميع أنواع الحضارات، إذ بذلك ينالون أسباب القوة والخلود، ويتفادون أخطار الجمود والجحود، وهو دين الوفاء بالعهود، والعدل الوارف الظلال والإحسان الشامل للوجود، وهو دين تقوم تكاليفه على أساس الرفق والتيسير، ورفع الحرج والبعد عن كل تعسير، وهو دين يعامل الناس بالإنصاف والسوية، ويلزم بالشورى بين الراعي والرعية، ويحذر المسلمين من التنازع المؤدي إلى الفشل، ويحضهم على وحدة الصف والهدف والعمل، فبالوحدة يجمعون أمرهم، ويتغلبون على الصعاب التي تعترض سيرهم، ويتمكنون من استيناف البناء والتشييد، والإصلاح والتجديد، في عالم الإسلام الواسع المديد، وإذا جمعت المسلمين كلمة التوحيد وربطتهم شريعة الإسلام، فلا خوف عليهم من غوائل الدهر، ومفاجآت الأيام. قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به، لعلكم تتقون) سورة. الأنعام 153.
معاشر المسلمين
من حقنا أن نحمد الله حمدا كثيرا، ومن واجبنا أن نشكره شكرا جزيلا على أن جعل ديننا دينا ملائما للفطرة القويمة، تستسيغه وتنسجم معه كل الطباع والعقول السليمة، فهو دين يحل جميع “الطيبات” ويجعلها في متناول الإنسان، دون طبقية ولا عنصرية، ولا يحرم عليه –وقاية له- إلا “الخبائث” التي لا يقبلها الطبع ولا تعود عليه بمنفعة حقيقية، وهو دين يعتبر كل عمل صالح وسعي نافع نوعا ممتازا من العبادة ما دام الهدف من نفس العمل خدمة للفرد والجماعة، وتبادل الإفادة والاستفادة، وهو دين يحض على النظر في ملك الله وملكوته الواسع الأكناف، ويدعو إلى التدبر في آياته المبثوثة في الكون الشاسع الأطراف، تجديدا لفيض الإيمان، وتعريفا بأسرار الكون المسخر لمنفعة الإنسان. قال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) سورة الروم 30. وقال تعالى(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) سورة النحل 97. قال تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون) سورة الجاثية 13.
معاشر المسلمين
إن من تيسير الله لنا في معالجة شؤون الدنيا وشؤون الدين، أن جعل الشريعة الإسلامية التي أكرمنا بها شريعة فطرية في مبادئها، منطقية في أحكامها، قادرة على استيعاب مراحل التطور بأجمعها، مستجيبة لحاجيات المجتمعات على اختلاف مستوياتها وأنواعها، صالحة للتطبيق في كل عصر وجيل، دون حاجة إلى إدخال أي تغيير على مبادئها أو تبديل. ففي نطاق مبادئها وقواعدها والمحافظة على روحها يمكن لكل مجتمع أن يبلغ غاية ما يطمح إليه من التطور والنمو، والكمال والسمو. بل كلما تقدمت البشرية خطوة إلى الأمام، وجدت مثل الإسلام العليا سابقة لها متقدمة عليها، تضيء لها الطريق على الدوام، وإنما يتوقف الأمر على من يستوعب نصوصها، ويدرك مقاصدها ويتفهم أسرارها ويأخذ على عاتقه أن يستخرج نفائسها ودررها، وذلك أمر مرهون بإعداد مجموعة كافية من العلماء والمفكرين، يكونون –مثل سلفهم- مستوفين لشروط الاجتهاد والنظر في أصول الدين، ويكرسون جهودهم لإحياء تراث الإسلام الثمين، وصياغته صياغة جديدة تجعله في خدمة: جماهير المسلمين.
فمن واجب القادة المسؤولين والزعماء البارزين في العالم الإسلامي أن يفتحوا الطريق أمام القائمين بالبعث الإسلامي والدعوة الإسلامية، وأن يشملوهم بالرعاية الكافية، حتى يؤدوا رسالتهم أحسن أداء. كما أن من واجب دعاة الإسلام أنفسهم أن يجتمعوا على كلمة سواء، ويدعموا فيما بينهم روابط التضامن والإخاء، وأن يعملوا على أن تكون دعوتهم خالصة لوجه الله يسودها طابع التعاون والصفاء. فبالتخطيط الإسلامي المحكم، والعمل المتواصل المنظم للدعوة الإسلامية الموحدة، يتغلب المجتمع الإسلامي على كثير من الأزمات، ويتصدى بفعالية ونجاح لمواجهة كثير من التحديات ويمارس مسؤولية تطوره ونموه بنفسه وفي نطاق حضارته، دون أدنى تبعية، ولا ضغوط خارجية قال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) سورة التوبة 122. وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) سورة آل عمران -104 – 105.
معاشر المسلمين
إن الإسلام دين ترتكز فيه الحياة كلها على مبدأ المسؤولية، وهي في مفهومه فردية وجماعية، فما من أحد منا إلا وهو يتحمل حظا منها يضيق أو يتسع، بقدر ما يوضع بين يديه، ويتصرف فيه، من مرافق خاصة أو عامة، وإن مراقبة الله، والشعور بالمسؤولية أمام خلقه، لحافز كبير على أداء الحقوق والأمانات إلى أهلها، ودافع قوي للقيام بالتكاليف والواجبات في وقتها والمبادرة بتدارك ما فات منها، ولن تؤتي المسؤولية أكلها إلا إذا كان المسؤول يقدر مسؤوليته حق قدرها، ولا يفرط مطلقا في أمرها، وإلا إذا أعطى القدوة الحسنة من نفسه للقريب والبعيد، وصرف أكبر حظ من نشاطه في العمل المفيد والقول السديد، وإن الخطر كل الخطر في إهمال المسؤولية بعد حملها، أو وضعها في أيدي المتطفلين عليها ومن ليسوا من أهلها، إذ بذلك تضيع الحقوق وتتعرض المصالح المشروعة للإهمال، ويختل نظام المجتمع ويصاب بالتفكك والانحلال، وعلينا نحن المسلمين كافة، فرادى وجماعات، أن نتحمل مسؤوليتنا التاريخية بكل شهامة وحزم، داخلا وخارجا، حتى يواصل الإسلام سيره دون تراجع ولا وقوف، ويستعيد سيرته الأولى ومركزه الممتاز في مقدمة الصفوف، قال تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) سورة الأحزاب 72. وقال تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى) سورة النجم 39 – 42.”[19]
المحور الرابع: جهود الملك أمير المؤمنين محمد السادس في مأسسة الخطاب الديني وطنيا ودوليا وتسديد التبليغ عبر خطط وبرامج إعلامية
نظرة تمهيدية:
وجب التأكيد بدءا على أن ما تنفرد به الّإصلاحات ومنه الإصلاح الديني في العهد المحمدي هو:
تواليها وشموليتها وتنوعها لتشكل منظومة متقاربة ومتكاملة وقد رد من الخطاب الملكي أنه ” وتجسيدا لما أعلنا عنه في خطاب العرش الأخير، وخطاب 29 ماي 2003 بالدار البيضاء، وما اتخذناه من إجراءات وتدابير لازمة لذلك، ها نحن اليوم، نشرع في إرساء وتفعيل ما سهرنا على إعداده، من استراتيجية مندمجة وشمولية، متعددة الأبعاد، ثلاثية الأركان، لتأهيل الحقل الديني وتجديده، تحصينا للمغرب من نوازع التطرف والإرهاب، وحفاظا على هويته المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح. “[20] .
هذه الخطابات المولوية السامية تصب في مصب واحد وهو عبارة عن شكل هندسي صغناه في تربيع فأطلقنا على كل زاوية منه مسمى دالا:
1_ تأمين الدين
2_ تصحيح الدين
3_تبليغ الدين
4_ ترشيد التدين
هذا، ويؤازر جلالتَه في ذلك علماءُ الأمة الذين يضفون الصبغة الشرعية على مبادراته الإصلاحية التي يقودها جلالته والهادفة للعمران البشري ومنطلق كل ذلك فتوى المجلس العلمي الأعلى حول المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام والتي كانت من أولى الفتاوى الصادرة على الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء بعد تنصيبها وكان أولَ من طلب هذه الفتوى مؤسسةُ إمارة المؤمنين حتى تقتدي بها وتهتدي المؤسسات الوطنية الفاعلة في الشأن العام مما يخص الأمة المغربية.
المؤسسات : إعادة الهيكلة وإحداث أخرى متخصصصة
إعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية غير ما مرة وفق المستجِدات الموضوعاتية ، كان آخرها ما عرفه المجلس على المستوى المركزي والجهوي والإقليمي وذلك بإحداث مدريتين مركزيتين الأولى للتبليغ والثانية للتتبع مع إحداث المجالس العلمية الجهوية[19] وتوسعة منظومة المجالس العلمية المحلية من خلال تعديل الظهير الشريف المحدث لهذه المجالس والذي تعود نصوصه التأسيسية للعهد الحسني وإصداره للظهير الشريف رقم 1.80.270 بتاريخ 3 جمادى الآخرة 1401(8 أبريل 1981
إدماج المرأة في مجال الحقل الديني: مؤسساتيا وتخاطبا
وعلى نفس السير سار نجله ووارث سره أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله وبروح جديدة ومواضيع فريدة تناسب وتخص العصر وتستشرف المستقبل، فأشرك المرأة العالمة في أول تجربة من نوعها بقياد السيدة رجاء الناجي المكاوي الفقيهة القاضية والعالمة وكان عنوان الدرس كونية نظام الأسرة في عالم متعدد الخصوصيات والذي ألقي 2003_1424 وبعده جاءت مدونة الأسرة 2004 والتي أمر بإصلاح أمير المؤمنين في إطار تأسيس مجتمعي لمغرب ما بعد الألفية والتي اقتضت سياقات ورهانات وإكراهات إصلاحها من جديد تأسيسا على نقاش مجتمعي يحسم الخلافَ فيه أهل الاختصاص المؤازرون بالعلماء المنتسبون للمجلس العلمي الأعلى الذي يرأسه أمير المؤمنين رئاسته للمجلس الأعلى للسلطة القضائية .
تجديد الدروس الحسنية الرمضانية من خلال التفاعل مع طبيعة المواضيع التي تفتح للتداول العلمي بالحضرة المحمدية وفق تنظيرات ومستجدات لتجويد الأداء الديني وذلك بتجويد التأطير لضمان الأمن الروحي والمعنوي للمغاربة وطنيا ودوليا وعلى الصعيد الإفريقي.
تطوير الإعلام الديني التقليدي والتأسيس للإعلام الديني المتخصص بالموازاة مع فتح مشاريع الإعلام الديني التطبيقي والاجتماعي ولعل أبز معلم لذلك منصة محمد السادس للحديث النبوي الشريف .
الخطط والبرامج:
خطة ميثاق العلماء2009
خطة دعم التأطير الديني المحلي 2014
خطة تسديد التبليغ 2024
وعنها _ خطة تسديد التبليغ 2024 _يحدثنا السيد وزير الأوقاف أحمد التوفق ” إن وعي المؤسسة العلمية بوجود هذا التفاوت بين كمال الدين والنقص في جودة التدين هو الذي جعلها تُقبل على مشروع مجدِّد عنوانه “تسديد التبليغ”، مشروع يتوقف على أمرين: شرح بعض الحقائق للناس من جهة، وإقناعهم بأولوية بعض السلوكات من جهة أخرى”[21]
هذا، ويعد العلماء حماة هذا الإصلاح المولوي بما يضفونه عليه من قراءة شرعية في الزمن المرتهن مؤدى هذا الطرح: التجديد والإصلاح وضمان استمرارية هذا الصرح؛ إصلاح الحقل الديني.
استئناس:
“إن علماء المغرب قد تأتى لهم ما حققوه في خضم تجربة تاريخية جارية، الحجة الكبرى فيها ضد التطرف هي سياستكم الإصلاحية الداخلية والخارجية التي يقرؤها العلماء قراءة شرعية من منظور وفائكم بكليات الشرع على أوسع ما تتيحه آليات التدبير الحديث.
ومن جملة ما يحمي عملَ العلماء في هذه السياسة الجانبُ الأمني الذي يدخل في وازع السلطان وتستدعيه الظروف الإقليمية والدولية التي يتسرب منها إلينا كثير من الضلال.
فعسى هذا النموذج الثلاثي المتمثل في الإصلاحات التي ترسون دعائمها، يا مولاي، وفي وازع السلطان الذي تمثله الضمانة الأمنية التي تنافحون بها عن استقرارنا وهويتنا، وفي وازع القرآن الذي يتعهده العلماء، عساه أن يفيد علماء الأمة جمعاء، وفي مقدمتهم علماء إفريقيا في آفاق عمل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وعسى هذا النموذج أن يتعزز كذلك في السنوات المقبلة بالثمرات المنتظرة من الإصلاح الذي تباشرونه على صعيد جامعة القرويين، ولاسيما بتكوين خلف من علماء الأمة العدول”[22]
فاللهم اجعلنا على مقتدى القادة والسلام عليكم أيها السادة.
[1] أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية وموضوع درس : تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين
[2] بهاء الدين محمد الندوي، نائب رئيس جامعة دار الهدى الإسلامية بالهند، في درس حسني حول موضوع ” أهمية الدعوة الدينية ومكانة الدعاة”.
[3] ورود لفظ (أمر دينها) في تجديد الدين على رأس كل مائة سنة عبد الفتاح أبو غدة ،مجلة دعوة الحق العدد 242 ربيع1- نونبر 1984 عن موقع: www.habous.gov.ma
[4] الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
[5] درس حسني يوم الجمعة 4 رمضان 1445ه الموافق ل 15 مارس 2024م بالقصر الملكي بالرباط،بعنوان : تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين أحمد التوفيق عن موقع : www.habous.gov.maسبق ذكره.
[6] المرجع ذاته
[7] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[8] جهود السلطان سيدي محمد بن عبد الله في تنظيم مرافق الدولة وإصلاح العدالة الزبير مهداد مجلة دعوة الحق عدد www.habous.gov.ma345
[9] المرجع ذاته
[10] المرجع ذاته
[11] www.attawabit.ma
[12] رسالة القرن للسلطان سيدي محمد بن عبد الله
[13] www.attawabit.ma
[14] مجلة الذاكرة الوطنية” عدد: 136/ 2003 ص226 .
[15] أوردنا ذلك استشهادا في مقالنا بعنوان : الجهاد والإصلاح في فكر المغفور له محمد الخامس: الملك المصلح والخطيب المفلح
بمناسبة اليوم الوطني للمقاوم 18 يونيو تم نشره يوم 20 يونيو 2021محمد أكعبور
[16] كلمة المغفور له محمد الخامس إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في شأن تأسيس مجلة دعوة الحق www.habous.gov.ma مرجع ذكر
[17] www.habous.gov.ma
[18] رسالة القرن المرجع ذاته
[19] www.habous.gov.ma
[20] يراجع خطاب 30 أبريل 2004 بالدار البيضاء أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الاقليمية
[21] أحمد التوفيق: تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين الدرس الأول من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية لسنة 1445 هـ.
الجمعة 4 رمضان 1445ه الموافق ل 15 مارس 2024م بالقصر الملكي بالرباط، www.habous.gov.ma
[22] من نص الدرس الحسني الافتتاحي للعام 1438 هـ الذي ألقاه بين يدي جلالة الملك السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، يوم الأحد 02 رمضان 1438 الموافق لـ 28 ماي 2017 حول موضوع “دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية” عن موقع : hadithm6.ma