هشام جيراندو.. منابر الوهم وأوهام البطولة الزائفة

في كل مرة يعتقد فيها الرأي العام أن جرعة الإثارة الزائفة التي يقدمها هشام جيراندو قد بلغت مداها، يُفاجأ المتابعون بخطاب جديد ينضح بالمغالطات، ويتغذى على التضليل الممنهج، والسطو المتكرر على مشاعر البسطاء.

جيراندو، الذي يقدم نفسه كصوت “الحقيقة المطلقة”، لا يفوّت فرصة لاستغلال القضايا الوطنية لترويج رواياته الركيكة، التي لا تصمد أمام أبسط قواعد التمحيص العقلاني أو الصحفي.

وإذا كانت بعض الأصوات تصر على تبرير مواقفه بكونها “رأيا حرا”، فإن التمادي الممنهج في اختلاق الوقائع، وتشويه المؤسسات، واتهام الأجهزة الوطنية بالباطل، يُخرج ما يفعله من خانة الرأي إلى فضاء العبث الإعلامي، بل وأحيانا إلى ما يشبه التحريض المعنوي على كيان الدولة.

جيراندو لا يُقدم وقائع، بل يسوق “أفلاما” مُفصلة على مقاس جمهور يبحث عن الإثارة السريعة، ويستهوي الروايات الصادمة، حتى وإن كانت بلا أدلة أو مصدر. يلوك أسماء المؤسسات، ويطعن في نوايا الناس، ويوزع التهم كما لو أنه قاضٍ مطلق الصلاحيات، ناسفا بذلك أبسط المبادئ التي تقوم عليها حرية التعبير: المسؤولية والمصداقية.

اللافت أن ما يعرضه هشام جيراندو لا يثير الغضب فقط لأنه يمس مؤسسات الدولة، بل لأنه يستغل تعاطف جمهور بسيط، لا يمتلك دائما أدوات التحقق، فيغرقه في متاهات التشكيك والتضليل العاطفي. وهنا مكمن الخطورة: فالرجل لا يناقش من موقع نقد مؤسساتي رصين، بل من موقع صناعة الفتنة الرقمية، والبناء السطحي لعداء مفتعل ضد الدولة.

صحيح أن المواطن من حقه مساءلة مؤسساته، ومن حق الصحافة أن تفتح الملفات وتكشف الاختلالات، لكن ليس عبر منصات تفتقد إلى المصداقية والمهنية، وتؤسس لرأسمالها الرمزي على حساب الحقيقة والثقة العامة. فالدولة ليست خصما، ومؤسساتها ليست عدوا، ولا يجوز اللعب على أوتار الإحباط لتسويق الوهم على أنه البديل.

المؤسف في حالة جيراندو، أن مشروعه الإعلامي لا يحمل رؤية، ولا ينبني على أي مشروع إصلاحي أو خطاب تحليلي، بل يتغذى فقط من نظريات المؤامرة، ومن غبار الأسئلة الحارقة التي لا يريد لها أبدا أن تُجاب.

هو لا يبحث عن حل، بل يستثمر في الأزمة. لا يسعى إلى البناء، بل يتغذى من الهدم. ولا يطرح إشكالات حقيقية، بل ينتقي كل ما يمكنه أن يثير الغضب ويحوّله إلى مادة استهلاكية تتغذى على وجع الناس لا على وعيهم.

إن الدفاع عن حرية التعبير لا يمكن أن يبرر هذا الانحدار. فالكلمة الحرة لا تعني التشويه المجاني، ولا اختلاق الأحداث، ولا اغتيال الرموز والمؤسسات باسم “الفضح”، بل تعني المسؤولية، والتوازن، والاحتكام إلى المنطق والحجة والدليل.

وإلى أن يقرر هشام جيراندو أن يتحول من ناشر للادعاءات إلى حامل حقيقي لقضايا الناس، ستظل حكاياته مجرد محاولة لتسيير “قطيع رقمي”، لا يشغله البحث عن الحقيقة بقدر ما تشغله القصص المستعارة. أما المؤسسات، فباقية، ثابتة، وماضية في خدمة الوطن بصمت لا تحكمه صرخات العدمية أو هستيريا الكاميرا.

Ahmed Cheikh

منشورات ذات صلة