• ماي 2, 2025

الملكية المغربية وإنتاج المعنى السياسي: من السيادة الرمزية إلى التدبير الاجتماعي ( الورقة الأولى)

تتحرك الملكية في المغرب اليوم وفق هندسة دقيقة تجعل منها نسيجًا متجانسًا مع المجتمع، لا منفصلًا عنه. في عهد الملك محمد السادس، برز نمط جديد من القيادة يتأسس على الحضور المستمر داخل الوعي الجمعي، من خلال التفاعل مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وتلمس احتياجات المواطنين في عمقها لا في سطحها. لم يكن هذا التوجه وليد الترف السياسي، بل تعبيرًا عن فهم عميق لطبيعة الزمن المغربي المتجدد، ولأهمية أن تبقى المؤسسة الملكية مرآة لتطلعات الناس.

من هذا المنطلق، تتجلى خصوصية القيادة الملكية بوصفها ممارسة تشاركية متجذرة في الواقع لا منفصلة عنه. فالملك، في رؤيته وممارسته، يدير الدولة بمنطق المشاركة الهادئة. يمنح المؤسسات المنتخبة هامش اشتغالها، دون أن يُفلت البوصلة من يده. يضبط الإيقاع بصمتٍ حين يتطلب الأمر ذلك، ويُسند بقوة حين تضعف الأذرع التنفيذية، دون أن يُضعف هذا التوازن من نضج التجربة أو من مصداقية الفاعلين السياسيين. بهذا التموقع، تصبح القيادة الملكية آلية تثبيت للاستقرار، ومصدرًا لإعادة توجيه المسار دون احتكار للقرار.

وهذا الحضور المتوازن للمؤسسة الملكية لا ينفصل عن طبيعة التفاعل اليومي مع القضايا الاجتماعية الرئيسية. فالنموذج المغربي لا يقوم على إدارة الملفات الكبرى من برج عاجي، بل على ملامسة قضايا الصحة، والتعليم، والسكن، والعدالة، بروح تنحاز إلى الإنسان، لا إلى النظام الإداري وحده. ويؤكد الملك محمد السادس هذا المنحى بقوله في أحد خطاباته: «إن الشأن الاجتماعي يحظى عندي باهتمام وانشغال بالغين، كملك وكإنسان. فمنذ أن توليت العرش، وأنا دائم الإصغاء لنبض المجتمع، وللانتظارات المشروعة للمواطنين، ودائم العمل والأمل، من أجل تحسين ظروفهم». هذا التوجه يعكس عمق الرؤية الملكية ويعزز شرعية القيادة السياسية، ويُسهم في استعادة الثقة الشعبية بمنأى عن أي استعراض سلطوي أو تكرار شعارات قديمة.

هذا التفاعل الاجتماعي المتجدد يجد جذوره النظرية في علم السياسة، حيث يمكن فهم هذا النموذج من خلال مفهوم “الشرعية الكاريزمية” كما وضعه ماكس فيبر، إذ تتجسد السلطة هنا في شخصية الملك الذي يراكم الشرعية بفعل حضوره الاجتماعي والوجداني، لا فقط من خلال البنية الدستورية. ويتكامل هذا البعد مع الشرعية القانونية للمؤسسات، ما يخلق توازنًا بين الرمز والممارسة، ويمنح النظام السياسي مرونة داخلية نادرة.

وفي امتداد لهذا التحليل، يتضح أن المؤسسة الملكية تؤدي أيضًا دور الرمز السياسي الجامع، كما حلل دافيد إيستون، حيث تتحول إلى مركز إدماجي لمكونات المجتمع المغربي المتعددة، وتُمارس وظيفة تماسك لا يمكن لبنية حزبية أو حكومة عابرة أن تضطلع بها. وهذا التموقع الرمزي-الوظيفي يفسر استمرار حضور الملكية كمؤسسة فوق الزمن الانتخابي، وفوق الاستقطاب الحزبي، لكنها ليست خارجة عن الهمّ الاجتماعي.

وهنا يأتي دور اللسانيات السياسية لتكشف عن عمق هذا النموذج الخطابي في إنتاج السلطة. فالخطاب الملكي يعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة عبر لغة تتسم بالحميمية والوضوح والبراغماتية. إنها لغة تُوازن بين الاستدعاء الرمزي للتقاليد والاستحضار العقلاني لمعطيات الواقع. فالخطاب لا يستند فقط إلى الشرعية بل يُنتجها، من خلال بناء المعنى السياسي بعبارات تُطَمْئن ولا تُهيمن، وتُقنع ولا تُقصي، ما يمنحه قوة تأثير تتجاوز الأداء المؤسسي نحو إنتاج التماسك الخطابي.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى مفهوم “الملك المواطن” لا باعتباره شعارًا سياسيًا بل حمولة لسانية وسيميائية تعيد تعريف موقع الملك ضمن الحقل التداولي الوطني. فحين يُطل الملك في مشهد اجتماعي أو يتدخل في ملف إنساني، فإنه لا يُفَعِّل سلطته فقط، بل يُفعِّل رمزيته من خلال لغة الجسد والخطاب والسياق. بذلك، يصبح حضوره امتدادًا لما يسميه بيير بورديو بـ”الرأسمال الرمزي”، أي القدرة على إنتاج الشرعية من خلال الإقناع الاجتماعي والتكرار المؤسسي.

ويكتمل هذا النسق التحليلي حين نربط بين اللغة والوظيفة، بين الرمز والممارسة، لنتبين أن الملك، بصفته “المواطن الأول”، لا يتدخل فقط كسلطة، بل كفاعل اجتماعي مباشر، يلامس القضايا المعيشية ويعيد الاعتبار لمعاني الكرامة والإنصاف. وهنا تتجلى خصوصية “الملكية التشاركية ذات الأثر الاجتماعي المباشر”، التي تتدخل عندما تختل الموازين، وتبادر حين تتعثر الآليات التقليدية.

وعليه، فإن المؤسسة الملكية، كما تتجلى في هذا النسق، تملك القدرة على الحفاظ على توازن نادر بين الرمز والفاعلية. فهي تتجدد دون أن تتنكر لماضيها، وتواكب دون أن تفقد هويتها، وتتفاعل دون أن تفقد القدرة على الحسم. وهذا ما يجعلها في قلب الدولة، لا على هامشها، شريكًا في البناء، وحاميًا لتماسك اللحظة الوطنية، وحاضرًا في لحظات الانعطاف السياسي أو الاجتماعي بما يناسب مقامها ووظيفتها، لقد ساهم هذا الشكل من القيادة في صياغة استثناء مغربيّ لا يعتمد على المقارنات، بل يفرض حضوره بتراكم الممارسة، ونجاعة الضبط، وهدوء التأثير. إنه مسار لا يدّعي الكمال، لكنه يحمل بذور الحكمة، ويمنح للدولة إطارًا مرنًا تتسع فيه الإرادة دون أن تنكسر أمام التحديات.

في ضوء ذلك، لا يمكن فهم مكانة الملكية في المغرب إلا بفهم نوعية “العقد غير المكتوب” الذي يربط الملك بالشعب. إنه عقد اجتماعي من نوع خاص، لا يُقاس فقط بمدى تطبيق الدستور، بل بمدى استبطان الملك لهموم المواطن، وتحوله من مجرد رأس دولة، إلى قلب مجتمع. هكذا تتجلى خصوصية الملكية المغربية: قيادة ترعى دون وصاية، وتحكم دون استبداد، وتُؤثر دون ضجيج.

إن هذا النموذج، الذي تتجدد فيه السلطة عبر خطابها، ويُعاد فيه بناء الدولة من خلال مركزها الملكي، يُمثّل رهانًا مستقبليًا على قدرة الأنظمة التقليدية على التكيف الخلّاق مع تحولات العصر، دون تفريط في جوهرها السيادي أو في أصالتها التاريخية. وهو ما يجعل التجربة المغربية في حاجة دائمة إلى تأمل علمي رصين، لا لتفسير حضورها فقط، بل لفهم قدرتها على الاستمرار بصمت وفعالية في آنٍ معًا.

ميمونة الحاج داهي

Ahmed Cheikh

منشورات ذات صلة